سورة النمل - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النمل)


        


{وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61)}
قوله تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ} أي وأرسلنا لوطا، أو اذكر لوطا. {إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ} وهم أهل سدوم.
وقال لقومه: {أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ} الفعلة القبيحة الشنيعة. {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} أنها فاحشة، وذلك أعظم لذنوبكم.
وقيل: يأتي بعضكم بعضا وأنتم تنظرون إليه. وكانوا لا يستترون عتوا منهم وتمردا. {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ} أعاد ذكرها لفرط قبحها وشنعتها. {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} إما أمر التحريم أو العقوبة. واختيار الخليل وسيبويه تخفيف الهمزة الثانية من {أإنكم} فأما الخط فالسبيل فيه أن يكتب بألفين على الوجوه كلها، لأنها همزة مبتدأة دخلت عليها ألف الاستفهام. قوله تعالى: {فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي عن أدبار الرجال. يقولون ذلك استهزاء منهم، قاله مجاهد.
وقال قتادة: عابوهم والله بغير عيب بأنهم يتطهرون من أعمال السوء. {فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ} وقرأ عاصم: {قدرنا} مخففا والمعنى واحد. يقال قد قدرت الشيء قدرا وقدرا وقدرته. {وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} أي من أنذر فلم يقبل الإنذار. وقد مضى بيان هذا في الأعراف وهود.
قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى} قال الفراء قال أهل المعاني: قيل للوط {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} على هلاكهم. وخالف جماعة من العلماء الفراء في هذا وقالوا: هو مخاطبة لنبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي قل الحمد لله على هلاك كفار الأمم الخالية. قال النحاس: وهذا أولى، لان القرآن منزل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكل ما فيه فهو مخاطب به عليه السلام إلا ما لم يصح معناه إلا لغيره.
وقيل: المعنى، أي {قُلِ} يا محمد {الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى} يعني أمته عليه السلام. قال الكلبي: اصطفاهم الله بمعرفته وطاعته.
وقال ابن عباس وسفيان: هم أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته وقدرته على كل شيء وحكمته، وأن يستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده. وفية تعليم حسن، وتوقيف على أدب جميل، وبعث على التيمن بالذكرين والتبرك بهما، والاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين وإصغائهم إليه، وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المستمع. ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر هذا الأدب، فحمدوا الله وصلوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمام كل علم مفاد، وقبل كل عظة وفي مفتتح كل خطبة، وتبعهم المترسلون فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني، وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن. قوله تعالى: {الَّذِينَ اصْطَفى} اختار، أي لرسالته وهم الأنبياء عليهم السلام، دليله قوله تعالى: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ}. {آللَّهُ خَيْرٌ} وأجاز أبو حاتم {أألله خير} بهمزتين. النحاس: ولا نعلم أحدا تابعه على ذلك، لان هذه المدة إنما جئ بها فرقا بين الاستفهام والخبر، وهذه ألف التوقيف، و{خَيْرٌ} هاهنا ليس بمعنى أفضل منك، وإنما هو مثل قول الشاعر: أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء فالمعنى فالذي فيه الشر منكما للذي فيه الخير الفداء. ولا يجوز أن يكون بمعنى من لأنك إذا قلت: فلان شر من فلان ففي كل واحد منهما شر، وقيل المعنى: الخير في هذا أم في هذا الذي تشركونه في العبادة! وحكى سيبويه: السعادة أحب إليك أم الشقاء، وهو يعلم أن السعادة أحب إليه.
وقيل: هو على بابه من التفضيل، والمعنى: آلله خير أم ما تشركون، أي أثوابه خير أم عقاب ما تشركون.
وقيل: قال لهم ذلك، لأنهم كانوا يعتقدون أن في عبادة الأصنام خير فخاطبهم الله عز وجل على اعتقادهم.
وقيل: اللفظ لفظ الاستفهام ومعناه الخبر. وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب: {يُشْرِكُونَ} بياء على الخبر. الباقون بالتاء على الخطاب، وهو اختيار أبى عبيد وأبى حاتم، فكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قرأ هذه الآية يقول: «بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم». قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} قال أبو حاتم: تقديره، آلهتكم خير أم من خلق السماوات والأرض، وقد تقدم. ومعناه: قدر على خلقهن.
وقيل: المعنى، أعبادة ما تعبدون من أوثانكم خير أم عبادة من خلق السماوات والأرض؟. فهو مردود على ما قبله من المعنى، وفية معنى التوبيخ لهم، والتنبيه على قدرة الله عز وجل وعجز آلهتهم. {فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ} الحديقة البستان الذي عليه حائط. والبهجة المنظر الحسن. قال الفراء: الحديقة البستان المحظر عليه حائط، وإن لم يكن عليه حائط فهو البستان وليس بحديقة.
وقال قتادة وعكرمة: الحدائق النخل ذات بهجة، والبهجة الزينة والحسن، يبهج به من رآه. {ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها} {ما} للنفي. ومعناه الحظر والمنع من فعل هذا، أي ما كان للبشر، ولا يتهيأ لهم تحت قدرتهم، أن ينبتوا شجرها، إذ هم عجزة عن مثلها، لان ذلك إخراج الشيء من العدم إلى الوجود. قلت: وقد يستدل من هذا على منع تصوير شيء سواء كان له روح أم لم يكن، وهو قول مجاهد. ويعضده قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «قال الله عز وجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة» رواه مسلم في صحيحه من حديث أبى هريرة، قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «قال الله عز وجل» فذكره، فعم بالذم والتهديد والتقبيح كل من تعاطى تصوير شيء مما خلقه الله وضاهاه في التشبيه في خلقه فيما انفرد به سبحانه من الخلق والاختراع هذا واضح. وذهب الجمهور إلى أن تصوير ما ليس فيه روح يجوز هو والاكتساب به. وقد قال ابن عباس للذي سأل أن يصنع الصور: إن كنت لا بد فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له خرجه مسلم أيضا. والمنع أولى والله أعلم لما ذكرنا. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سبأ إن شاء الله تعالى ثم قال على جهة التوبيخ: {أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ} أي هل معبود مع الله يعينه على ذلك. {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} بالله غيره.
وقيل: {يَعْدِلُونَ} عن الحق والقصد، أي يكفرون.
وقيل: {إِلهٌ} مرفوع ب {مَعَ} تقديره إمع الله ويلكم إله. والوقف على {مَعَ اللَّهِ} حسن. قوله تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً} أي مستقرا. {وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً} أي وسطها مثل {وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً}. {وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ} يعني جبالا ثوابت تمسكها وتمنعها من الحركة. {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً} مانعا من قدرته لئلا يختلط الأجاج بالعذب.
وقال ابن عباس: سلطانا من قدرته فلا هذا يغير ذاك ولا ذاك يغير هذا. والحجز المنع. {أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ} أي إذا ثبت أنه لا يقدر على هذا غيره فلم يعبدون ما لا يضر ولا ينفع. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} يعني كأنهم يجهلون الله فلا يعلمون ما يجب له من الوحدانية.


{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ} قال ابن عباس: هو ذو الضرورة المجهود.
وقال السدى: الذي لا حول له ولا قوة.
وقال ذو النون: هو الذي قطع العلائق عما دون الله.
وقال أبو جعفر وأبو عثمان النيسابوري هو المفلس.
وقال سهل ابن عبد الله: هو الذي إذا رفع يديه إلى الله داعيا لم يكن له وسيلة من طاعة قدمها. وجاء رجل إلى مالك بن دينار فقال: أنا أسألك با لله أن تدعو لي فأنا مضطر، قال: إذا فاسأله فإنه يجيب المضطر إذا دعاه. قال الشاعر:
وإني لأدعو الله والامر ضيق *** على فما ينفك أن يتفرجا
ورب أخ سدت عليه وجوهه *** أصاب لها لما دعا الله مخرجا
الثانية: وفي مسند أبى داو الطيالسي عن أبى بكرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعاء المضطر: «اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت».
الثالثة: ضمن الله تعالى إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه، والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجاء ينشأ عن الإخلاص، وقطع القلب عما سواه، وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمة، وجد من مؤمن أو كافر، طائع أو فاجر، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} وقوله: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ} فأجابهم عند ضرورتهم ووقوع إخلاصهم، مع علمه أنهم يعودون إلى شركهم وكفرهم.
وقال تعالى: {فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فيجيب المضطر لموضع اضطراره وإخلاصه.
وفي الحديث: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة المظلوم ودعوه المسافر ودعوه الوالد على ولده» ذكره صاحب الشهاب، وهو حديث صحيح.
وفي صحيح مسلم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال لمعاذ لما وجهه إلى أرض اليمن: «واتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب» وفي كتاب الشهاب: «اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام فيقول الله تبارك وتعالى وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين» وهو صحيح أيضا. وخرج الآجري من حديث أبى ذر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «فإنى لا أردها ولو كانت من فم كافر» فيجيب المظلوم لموضع إخلاصه بضرورته بمقتضى كرمه، وإجابة لا خلاصه وإن كان كافرا، وكذلك إن كان فاجرا في دينه، ففجور الفاجر وكفر الكافر لا يعود منه نقص ولا وهن على مملكة سيده، فلا يمنعه ما قضى للمضطر من إجابته. وفسر إجابة دعوة المظلوم بالنصرة على ظالمه بما شاء سبحانه من قهر له، أو اقتصاص منه، أو تسليط ظالم آخر عليه يقهره كما قال عز وجل: {وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً} وأكد سرعة إجابتها بقول: «تحمل على الغمام» ومعناه والله أعلم أن الله عز وجل يوكل ملائكته بتلقي دعوة المظلوم وبحملها على الغمام، فيعرجوا بها إلى السماء، والسماء قبلة الدعاء ليراها الملائكة كلهم، فيظهر منه معاونة المظلوم، وشفاعة منهم له في إجابة دعوته، رحمة له.
وفي هذا تحذير من الظلم جملة، لما فيه من سخط الله ومعصيته ومخالفة أمره، حيث قال على لسان نبيه في صحيح مسلم وغيره: «يا عبادي إنى حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا» الحديث. فالمظلوم مضطر، ويقرب منه المسافر، لأنه منقطع عن الأهل والوطن منفرد عن الصديق والحميم، لا يسكن قلبه إلى مسعد ولا معين لغربته. فتصدق ضرورته إلى المولى، فيخلص إليه في اللجإ، وهو المجيب للمضطر إذا دعاه، وكذلك دعوة الوالد على ولده، لا تصدر منه مع ما يعلم من حنته عليه وشفقته، إلا عند تكامل عجزه عنه، وصدق ضرورته، وإياسه عن بر ولده، مع وجود أذيته، فيسرع الحق إلى إجابته. قوله تعالى: {وَيَكْشِفُ السُّوءَ} أي الضر.
وقال الكلبي: الجور. {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ} أي سكانها يهلك قوما وينشئ آخرين.
وفي كتاب النقاش: أي ويجعل أولادكم خلفا منكم.
وقال الكلبي: خلفا من الكفار ينزلون أرضهم، وطاعة الله بعد كفرهم. {أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ} على جهة التوبيخ، كأنه قال إمع الله ويلكم إله، ف إِلهٌ مرفوع ب {مَعَ}.
ويجوز أن يكون مرفوعا بإضمار أإله مع الله يفعل ذلك فتعبدوه. والوقف على {مَعَ اللَّهِ} حسن. {قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ} قرأ أبو عمرو وهشام ويعقوب: {يذكرون} بالياء على الخبر، كقول: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} و{تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} فأخبر فيما قبلها وبعدها، واختاره أبو حاتم. الباقون بالتاء خطابا لقوله: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ}. قوله تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ} أي يرشدكم الطريق {فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} إذا سافرتم إلى البلاد التي تتوجهون إليها بالليل والنهار.
وقيل: وجعل مفاوز التي لا أعلام لها، ولجج البحار كأنها ظلمات، لأنه ليس لها علم يهتدى به. {وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي قدام المطر باتفاق أهل التأويل. {أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ} يفعل ذلك ويعينه عليه. {تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} من دونه. قوله تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} كانوا يقرون أنه الخالق الرازق فألزمهم الإعادة، أي إذا قدر الابتداء فمن ضرورته القدرة على الإعادة، وهو أهون عليه. {أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ} يخلق ويرزق ويبدئ ويعيد: {قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ} أي حجتكم أن لي شريكا، أو حجتكم في أنه صنع أحد شيئا من هذه الأشياء غير الله {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.


{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66)}
قوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} وعن بعضهم: أخفى غيبه على الخلق، ولم يطلع عليه أحد لئلا يأمن أحد من عبيده مكره.
وقيل: نزلت في المشركين حين سألوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قيام الساعة. و{مَنْ} في موضع رفع، والمعنى: قل لا يعلم أحد الغيب إلا الله، فإنه بدل من {مَنْ} قاله الزجاج.
الفراء: وإنما رفع ما بعد {إِلَّا} لان ما قبلها جحد، كقوله: ما ذهب أحد إلا أبوك، والمعنى واحد. قال الزجاج: ومن نصب نصب على الاستثناء، يعني في الكلام. قال النحاس: وسمعته يحتج بهذه الآية على من صدق منجما، وقال: أخاف أن يكفر بهذه الآية. قلت: وقد مضى هذا في الأنعام مستوفى. وقالت عائشة: من زعم أن محمدا يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} خرجه مسلم.
وروى أنه دخل على الحجاج منجم فاعتقله الحجاج، ثم أخذ حصيات فعدهن، ثم قال: كم في يدي من حصاة؟ فحسب المنجم ثم قال: كذا، فأصاب. ثم اعتقله فأخذ حصيات لم يعدهن فقال: كم في يدي؟ فحسب فأخطأ ثم حسب فأخطأ، ثم قال: أيها الأمير أظنك لا تعرف عددها، قال: لا. قال: فإنى لا أصيب. قال: فما الفرق؟ قال: إن ذلك أحصيته فخرج عن حد الغيب، وهذا لم تحصه فهو غيب و{لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} وقد مضى هذا في ال عمران والحمد لله. قوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} هذه قراءة أكثر الناس منهم عاصم وشيبة ونافع ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي. وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحميد: {بل أدرك} من الإدراك. وقرأ عطاء بن يسار وأخوه سليمان بن يسار والأعمش {بل أدرك} غير مهموز مشددا. وقرأ ابن محيصن: {بل أأدرك} على الاستفهام. وقرأ ابن عباس: {بلى} بإثبات الياء {ادارك} بهمزة قطع والدال مشددة وألف بعدها، قال النحاس: وإسناده إسناد صحيح، هو من حديث شعبة يرفعه إلى ابن عباس. وزعم هرون القارئ أن قراءة أبى {بل تدارك علمهم} القراءة الأولى والأخيرة معناهما واحد، لان أصل {ادَّارَكَ} تدارك، أدغمت الدال في التاء وجئ بألف الوصل، وفي معناه قولان: أحدهما أن المعنى بل تكامل علمهم في الآخرة، لأنهم رأوا كل ما وعدوا به معاينة فتكامل علمهم به. والقول الآخر أن المعنى: بل تتابع علمهم اليوم في الآخرة، فقالوا تكون وقالوا لا تكون. القراءة الثانية فيها قولان: أحدهما أن معناه كمل في الآخرة، وهو مثل الأول، قال مجاهد: معناه يدرك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها حين لا ينفعهم علمهم، لأنهم كانوا في الدنيا مكذبين. والقول الآخر أنه على معنى الإنكار، وهو مذهب أبى إسحاق، واستدل على صحة هذا القول بأن بعده {بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ} أي لم يدرك علمهم علم الآخرة.
وقيل: بل ضل وغاب علمهم في الآخرة فليس لهم فيها علم. والقراءة الثالثة: {بل أدرك} فهي بمعنى {بَلِ ادَّارَكَ} وقد يجئ افتعل وتفاعل بمعنى، ولذلك صحح ازدوجوا حين كان بمعنى تزاوجوا. القراءة الرابعة: ليس فيها إلا قول واحد يكون فيه معنى الإنكار، كما تقول: أأنا قاتلتك؟! فيكون المعنى لم يدرك، وعليه ترجع قراءة ابن عباس، قال ابن عباس: {بلى ادارك علمهم في الآخرة} أي لم يدرك. قال الفراء: وهو قول حسن كأنه وجهه إلى الاستهزاء بالمكذبين بالبعث، كقولك لرجل تكذبه: بلى لعمري قد أدركت السلف فأنت تروى ما لا أروى وأنت تكذبه. وقراءة سابعة: {بل أدرك} بفتح اللام، عدل إلى الفتحة لخفتها. وقد حكى نحو ذلك عن قطرب في {قُمِ اللَّيْلَ} فإنه عدل إلى الفتح. وكذلك وبع الثوب ونحوه. وذكر الزمخشري في الكتاب: وقرئ: {بل أأدرك} بهمزتين {بل آأدرك} بألف بينهما {بلى أأدرك} {أم تدارك} {أم أدرك} فهذه ثنتا عشرة قراءة، ثم أخذ يعلل وجوه القراءات وقال: فإن قلت فما وجه قراءة {بل أأدرك} على الاستفهام؟ قلت: هو استفهام على وجه الإنكار لادراك علمهم، وكذلك من قرأ {أم أدرك} و{أم تدارك} لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة، وأما من قرأ {بلى أأدرك} على الاستفهام فمعناه بلى يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور وقت كونها، لان العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن. {فِي الْآخِرَةِ} في شأن الآخرة ومعناها. {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها} أي في الدنيا. {بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ} أي بقلوبهم واحدهم عموم.
وقيل: عم، وأصله عميون حذفت الياء لالتقاء الساكنين ولم يجز تحريكها لثقل الحركة فيها.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9